سورة الفرقان - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


وقولُه تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ} إلخ صفة للسَّعيرِ أي إذا كانت بمرأى الناظرِ في البُعد كقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لا تَتَراءَى نارَاهُما» أيْ لا تتقاربانِ بحيثُ تكونُ إحدهُما بمرأى مِن الأُخرى على المجاز كأنَّ بعضَها يرى البعضَ. ونسبةُ الرُّؤيةِ إليها لا إليهم للإيذان بأنَّ التَّغيظَ والزَّفيرَ منها لهيجان غضبِها عليهم عند رُؤيتها إيَّاهم حقيقةً أو تمثيلاً. ومِن في قوله تعالى: {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} إشعارٌ بأنَّ بُعدَ ما بينهما وبينهم من المسافة حين رأتهُم خارجٌ عن حدود البُعدِ المعتاد في المسافات المعهودةِ وفيه مزيدُ تهويلٍ لأمرها. قال الكَلْبيُّ والسُّدِّيُّ. من مسيرةِ عامٍ وقيل: من مسيرة مائةِ سنةٍ {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} أي صوتُ تغيظٍ على تشبيه صوتِ غليانها بصوتِ المُغتاظِ وزفيرِه وهو صوتٌ يُسمع من جوفِه. هذا وإن الحياةَ لمَّا لم تكُن مشروطةً عندنا بالبنية أمكن أنْ يخلقَ الله تعالى فيها حياةً فترى وتتغيظُ وتزفرُ، وقيل: إنَّ ذلك لزبانيتها فنُسب إليها على حذفِ المضافِ.
{وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً} نُصبَ على الظَّرفَّيةِ ومنها حالٌ منه لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له {ضَيّقاً} صفةٌ لمكاناً مفيدةٌ لزيادة شدَّةٍ فإنَّ الكَرْبَ مع الضَّيقِ كما أنَّ الرَّوحَ مع السَّعةِ، وهو السِّرُّ في وصف الجنَّةِ بأنَّ عرضَها السَّمواتُ الأرضُ. وعن ابن عبَّاس وابنِ عُمر رضي الله تعالى عنهم: تضيقُ جهنَّمُ عليهم كما يضيقُ الزُّجُّ على الرُّمحِ. وسُئل النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلامُ عن ذلك فقال: «والذي نفسي بيدهِ إنَّهم ليُستكرهون في النَّارِ كما يُستكرِه الوَتِدُ في الحائطِ». قال الكلبيُّ: الأسفلُون يرفعهم اللَّهبُ والأعْلوَن يحطُّهم الدَّاخلونَ فيزدحمُون فيها. وقرئ: {ضَيْقاً} بسكون الياء. {مُقْرِنِينَ} حالٌ من مفعول أُلقوا أي أُلقوا منها مكاناً ضَيِّقاً حالَ كونِهم مقرَّنين قد قُرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامَع وقيل: مقرَّنين مع الشَّياطين في السَّلاسلِ، كلُّ كافرٍ مع شيطانٍ وفي أرجلهم الأصفادُ {دَعَوْاْ هُنَالِكَ} أي في ذلك المكانِ الهائلِ والحالةِ الفظيعةِ {ثُبُوراً} أي يتمنَّون هلاكاً وينادُونه يا ثبُوراه تعالَ فهذا حِينُك وأوانُك.
{لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا} على تقدير قول إمَّا منصوبٌ على أنَّه حالٌ من فاعلِ دَعَوا أي دَعَوه مقُولاً لهم ذلك حقيقة بأنْ يخاطبهم الملائكةُ به لتنبيههم على خلودِ عذابِهم وأنَّهم لا يُجابون إلى ما يَدْعُونه ولا ينالون ما يتمنَّونه من الهلاكِ المنجِّي، أو تمثيلاً وتصويراً لحالهم بحال مَن يُقال له ذلك من غير أنْ يكونَ هناك قولٌ ولا خطابٌ أي دَعَوه حالَ كونِهم أحِقَّاءَ بأنْ يُقال لهم ذلك. وإمَّا مُستأنفٌ وقع جواباً عن سؤال ينسحبُ عليه الكلامُ كأنَّه قيل: فماذَا يكونُ عند دُعائِهم المذكورِ فقيل يُقال لهم ذلك إقناطاً مَّما علَّقوا به أطماعَهم من الهلاك وتنبيهاً على أنَّ عذابهم الملجيءَ لهم إلى استدعاء الهلاكِ بالمَّرةِ أبديٌّ لا خلاصَ لهم منه أيْ لا تقتصِرُوا على دُعاء ثبورٍ واحدٍ {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} أي بحسب كثرة الدُّعاء المتعلِّق به لا بحسب كثرتِه في نفسِه فإنَّ ما يدعونَه ثبورٌ واحدٌ في حدِّ ذاته لكنه كلَّما تعلَّق به دعاءٌ من تلك الأدعية الكثيرةِ صارَ كأنَّه ثبورٌ مغايرٌ لما تعلَّق به دعاءٌ آخرُ منها وتحقيقُه لا تدعُوه دُعاءً واحداً وادعُوه أدعيةً كثيرةً فإنَّ ما أنتُم فيه من العذابِ لغايةِ شدَّتِه وطولِ مُدَّتِه مستوجبٌ لتكرير الدُّعاءِ في كلِّ آنٍ وهذا أدلُّ على فظاعة العذابِ وهوله جعل تعدد الدُّعاءِ وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانِه أو لتعدُّدِه بتجدُّدِ الجلودِ كما لا يَخْفى.
وأمَّا ما قيل: مِن أنَّ المعنى إنَّكم وقعتُم فيما ليس ثبورُكم فيه واحداً إنَّما هو ثبورٌ كثيرٌ، إمَّا لأنَّ العذابَ أنواعٌ وألوانٌ كلُّ نوعٍ منها ثبورٌ لشدَّتِه وفظاعتِه أو لأنَّهم كلمَّا نضجتْ جلودُهم بُدِّلوا غيرَها فلا غاية لهلاكِهم فلا يلائم المقامَ كيف لا وهُم إنَّما يدعُون هَلاَكاً ينهي عذابَهم ويُنجيِّهم منه فلا بُدَّ أنْ يكونَ الجوابُ إقناطاً لهم من ذلك ببيانِ استحالتِه ودوام ما يوجبُ استدعاءَه من العذاب الشَّديدِ، وتقييدُ النَّهي والأمر باليوم لمزيد التَّهويل والتَّفظيعِ والتَّنبيهِ على أنَّه ليس كسائر الأيَّامِ المعهُودةِ.


{قُلْ} تقريعاً لهم وتهكُّماً بهم وتحسيراً على ما فاتَهم {أذلك} إشارةٌ إلى ما ذُكر من السَّعير باعتبار اتَّصافها بما فُصِّل من الأحوال الهائلة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بكونها في الغاية القاصيةِ من الهول والفظاعةِ أي قُل لهم أذلك الذي ذُكر من السَّعير التي أعتدت لمن كذَّب بالسَّاعة وشأنُها كيتَ وكيتَ وشأنُ أهلِها ذيتَ وذيتَ {خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وَعِدَ المتقون} أي وُعدها المتَّقون. وإضافةُ الجَّنةِ إلى الخُلد للمدحِ وقيل: للتَّمييز عن جنَّاتِ الدُّنيا. والمرادُ بالمتَّقين المتَّصفون بمطلق التقَّوى لا بالمرتبة الثَّانيةِ أو الثَّالثةِ منها فَقَطْ {كَانَتْ} تلك الجَّنةُ {لَهُمْ} في علم الله تعالى أو في اللَّوح المحفوظِ أو لأنَّ ما وعده الله تعالى فهو كائنٌ لا محالةَ فحُكي تحقُّقه ووقوعُه {جَزَاء} على أعمالِهم حسبما مرَّ من الوعد الكريم {وَمَصِيراً} ينقلبون إليه.
{لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ} أي ما يشاءونه من فنُون الملاذِّ والمُشتَهيات وأنواع النَّعيمِ كما في قولِه تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} ولعلَّ كلَّ فريقٍ منهم يقتنعُ بما أُتيح له من درجات النَّعيم ولا تمتدُّ أعناقُ هممِهم إلى ما فوق ذلك من المراتبِ العاليةِ فلا يلزم الحرمانُ ولا تساوي مراتبِ أهلِ الجنانِ {خالدين} حالٌ من الضَّمير المستكِّنِ في الجارِّ والمجرورِ لاعتماده على المبتدأ وقيل: من فاعل يشاءون {كَانَ} أي ما يشاؤنه وقيل: الوعدُ المدلولُ عليه بقوله تعالى وُعد المتقَّون {على رَبّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} أي موعُوداً حقيقيَّا بأنْ يُسألَ ويُطلبَ لكونِه مَّما يتنافسُ فيه المُتنافسون أو مسؤولاً لا يسألُه النَّاسُ في دُعائهم بقولِهم ربنا وآتنا ما وعدتنا على رُسلك أو الملائكة بقولهم ربنا وأدخلهم جنَّاتِ عدن التي وعدتهم، وما في على من معنى الوجوبِ لامتناع الخُلفِ في وعدِه تعالى ولا يلزم منه الإلجاءُ إلى الإنجازِ فإنَّ تعلَّق الإرادة بالموعودِ متقدِّمٌ على الوعدِ الموجبِ للإنجاز، وفي التَّعرضِ لعُنوان الرُّبوبِّيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصَّلاة والسَّلام من تشريفه والإشعارِ بأنه عليه الصَّلاة والسَّلام هو الفائزُ آثر ذي أثيرٍ بمغانم الوعدِ الكريمِ ما لا يَخفْى.


{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} نُصب على أنَّه مفعول لمضمرٍ مقدَّمٍ معطوف على قولِه تعالى قل أذلك إلخ أي لهم بعد التَّقريعِ والتَّحسيرِ يوم يحشرهم الله عزَّ وجلَّ. وتعليقُ التَّذكيرِ باليوم مع أنَّ المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادثِ الهائلةِ قد مرَّ وجُهه غيرَ مرَّةٍ أو على أنَّه ظرفٌ لمضمرٍ مؤخَّرٍ قد حُذف للتَّنبيةِ على كمال هولِه وفظاعةِ ما فيه والإيذانِ بقُصورِ العبارةِ عن بيانِه أي يومَ يحشرُهم يكون من الأحوالِ والأهوالِ ما لا يفي ببيانِه المقالُ. وقرئ بنونِ العظمةِ بطريقِ الالتفاتِ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ وبكسرِ الشِّينِ أيضاً {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أُريد به ما يعمُّ العقلأَ وغيرَهم إمَّا لأنَّ كلمةَ ما موضوعةٌ للكلِّ كما ينبىء عنه أنك إذا رأيت شَبَحاً من بعيدٍ تقولُ ما هو أو لأنَّه أُريد به الوصفُ لا الذَّاتُ كأنَّه قيل: ومعبوديهم أو لتغليب الأصنامِ على غيرِها تنبيهاً على أنَّهم مثلُها في السُّقوطِ عن رُتبةِ المعبودَّيةِ أو اعبتاراً لغلبة عبدتِها أو أُريد به الملائكةُ والمسيحُ وعزيرٌ بقرينةِ السُّؤالِ والجوابِ أو الأصنامُ ينطقها الله تعالى أو تكلُّم بلسانِ الحالِ كما قيل: في شهادةِ الأيدِي والأرجلِ. {فَيَقُولُ} أي الله عزَّ وجلَّ للمعبودينَ إثرَ حشرِ الكلِّ تقريعاً للعَبَدةِ وتبكيتاً لهم. وقرئ بالنُّون كما عُطف عليه. وقرئ هذا بالياء والأولُ بالنُّون على طريق الالتفاتِ إلى الغَيْبةِ {ءَأنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء} بأنْ دعوتُموهم إلى عبادتِكم كما في قوله تعالى: {قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ} {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} أي عن السَّبيلِ بأنفسِهم لإخلالِهم بالنَّظر الصَّحيحِ وإعراضهم عن المرشدِ فحذف الجارَّ وأوصل الفعلُ إلى المفعول كقوله تعالى وهو يهدِي السَّبيلَ والأصلُ إلى السَّبيلِ أو للسَّبيلِ وتقديم الضَّميرينِ على الفعلينِ لأنَّ المقصودَ بالسُّؤالِ هو المُتصدَّي للفعل لا نفسُه.
{قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأَ من حكاية السُّؤالِ كأنَّه قيل: فماذا قالوا في الجواب فقيل قالوا {سبحانك} تعجُّباً ممَّا قيل لهم لأنَّهم إمَّا ملائكةٌ معصومون أو جماداتٌ لا قُدرةَ لها على شيءٍ أو إشعاراً بأنَّهم الموسُومون بتسبيحِه تعالى وتوحيدِه فكيف يتأتَّى منهم إضلالُ عبادِه، أو تنزيهاً له تعالى عن الأندادِ {مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا} أي ما صحَّ وما استقام لنا {أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ} أي متجاوزينَ إيَّاك {مِنْ أَوْلِيَاء} نعبدُهم لِما بنا من الحالةِ المُنافيةِ له فأنَّى يُتصوَّرُ أنْ نحملَ غيرَها على أنْ يتَّخذَ ولياً غيرَك فضلاً أنْ يتخذنا وليَّاً وأنْ نتخذَ من دونك أولياءَ أي أتباعاً فإنَّ الولي كما يُطلق على المتبوعِ يُطلق على التَّابعِ كالمَوْلى يُطلق على الأَعلى والأسفلِ ومنه أولياءُ الشَّيطانِ أي أتباعُه.
وقرئ على البناءِ للمفعولِ من المتعدِّي إلى مفعولينِ كما في قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} ومفعوله الثَّاني من أولياء على أنَّ مِن للتبعيضِ أي أنْ نتخذَ بعضَ أولياءٍ وهي على الأول مزيدةٌ. وتنكيرُ أولياء من حيثُ إنَّهم أولياء مخصوصون وهم الجنُّ والأصنام {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ} استدراك مسوقٌ لبيان أنَّهم هم الضَّالُّون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم، وقد نُعي عليهم سوءُ صنيعِهم حيث جعلُوا أسبابَ الهداية أسباباً للضَّلالة أي ما أضللناهم ولكنَّك متعتهم وآباءَهم بأنواع النِّعم ليعرفوا حقَّها ويشكروها فاستغرقُوا في الشَّهواتِ وانهمكُوا فيها {حتى نَسُواْ الذكر} أي غفَلوا عن ذكرِك أو عن التَّذكرِ في آلائِك والتَّدبرِ في آياتِك فجعلُوا أسبابَ الهداية بسوء اختيارِهم ذريعةً إلى الغَوايةِ {وَكَانُواْ} أي في قضائِك المبنيِّ على علمِك الأزليِّ المتعلق بما سيصدرُ عنهم فيما لا يزال باختيارِهم من الأعمالِ السَّيئةِ {قَوْماً بُوراً} أي هالكين على أنَّ بُوراً مصدرٌ وُصف به الفاعلُ مبالغةً ولذلك يستوى فيه الواحدُ والجمعُ أو جمعُ بائرٍ كعُوذٍ في جمعِ عائذٍ. والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لمضمونِ ما قبله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8